فصل: فصل في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصل

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏، فأدخل اللام في الصمد، ولم يدخلها في أحد؛ لأنه ليس في الموجودات ما يسمي أحدًا في الإثبات مفردًا غير مضاف إلا الله ـ تعالى ـ بخلاف النفي وما في معناه، كالشرط والاستفهام، فإنه يقال‏:‏ هل عندك أحد‏؟‏ وإن جاءني أحد من جهتك أكرمته، وإنما استعمل في العدد المطلق، يقال‏:‏ أحد، اثنان‏.‏ ويقال‏:‏ أحد عشر‏.‏ وفي أول الأيام يقال‏:‏ يوم الأحد، فإن فيه ـ على أصح القولين ـ ابتدأ الله خلق السموات والأرض وما بينهما‏.‏ كما دل عليه القرآن والأحاديث الصحيحة، فإن القرآن أخبر في غير موضع‏:‏ أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام‏.‏ وقد ثبت في الحديث الصحيح المتفق على صحته‏:‏ أن آخر المخلوقات كان آدم، خلق يوم الجمعة‏.‏ وإذا كان آخر الخلق كان يوم الجمعة دل على أن أوله كان يوم الأحد؛ لأنها ستة‏.‏

وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله‏:‏ ‏(‏خلق الله التربة يوم السبت‏)‏ فهو حديث معلول، قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، /قال البخاري‏:‏ الصحيح أنه موقوف على كعب، وقد ذكر تعليله البيهقي ـ أيضًا ـ وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه، كما أنكروا عليه إخراج أشياء يسيرة‏.‏ وقد بسط هذا في مواضع أخر، وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏، قال ابن عباس‏:‏ خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين، وبه قال عبد الله بن سلام والضحاك ومجاهد وابن جريج والسدي والأكثرون‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في يوم الثلاثاء والأربعاء‏.‏

قال‏:‏ وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏خلق الله التربة يوم السبت‏)‏ قال‏:‏ وهذا الحديث مخالف لما تقدم، وهو أصح، فصحح هذا لظنه صحة الحديث، إذ رواه مسلم، ولكن هذا له نظائر روي مسلم أحاديث قد عرف أنها غلط، مثل قول أبي سفيان لما أسلم‏:‏ أريد أن أزوجك أم حبيبة، ولا خلاف بين الناس أنه تزوجها قبل إســـلام أبي سفيان، ولكن هذا قليل جدًا‏.‏ ومثل ما روي في بعض طرق حديث صلاة الكسوف أنه صلاها بثلاث ركوعات وأربع، والصواب أنه لم يصلها إلا مرة واحد بركوعين؛ ولهذا لم يخرج البخاري إلا هذا، وكذلك الشافعي، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وغيرهما، والبخاري سلم من مثل هذا؛ فإنه إذا وقع في بعض/ الروايات غلط ذكر الروايات المحفوظة التي تبين غلط الغالط، فإنه كان أعرف بالحديث وعلله، وأفقه في معانيه من مسلم ونحوه‏.‏ وذكر ابن الجوزي في موضع آخر أن هذا قول ابن إسحاق قال‏:‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ وهذا إجماع أهل العلم‏.‏

وذكر قولًا ثالثًا في ابتداء الخلق‏:‏ أنه يوم الإثنين، وقاله ابن إسحاق، وهذا تناقض‏.‏ وذكر أن هذا قول أهل الإنجيل، والابتداء بيوم الأحد قول أهل التوراة‏.‏ وهذا النقل غلط على أهل الإنجيل، كما غلط من جعل الأول إجماع أهل العلم من المسلمين‏.‏ وكأن هؤلاء ظنوا أن كل أمة تجعل اجتماعها في اليوم السابع من الأيام السبعة التي خلق الله فيها العالم، وهذا غلط؛ فإن المسلمين إنما اجتماعهم في آخر يوم خلق الله فيه العالم، وهو يوم الجمعة، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة‏.‏

والمقصود هنا أن لفظ الأحد لم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده، وإنما يستعمل في غير الله في النفي، قال أهل اللغة يقول‏:‏ لا أحد في الدار، ولا تقل فيها أحد؛ ولهذا لم يجئ في القرآن إلا في غير الموجب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 47‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏، وفي الإضافة كقوله‏:‏ ‏{‏فَابْعَثُوا أَحَدَكُم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏، ‏{‏جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وأما اسم ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏، فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين كما تقدم‏.‏ فلم يقل‏:‏ الله صمد، بل قال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، فإنه المستوجب لغايته على الكمال، والمخلوق وإن كان صمدًا من بعض الوجوه، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه؛ فإنه يقبل التفرق والتجزئة، وهو- أيضًا - محتاج إلى غيره، فإن كل ما سوي الله محتاج إليه من كل وجه، فليس لأحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله ـ تبارك وتعالى ـ وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ، ويتفرق، ويتقسم، وينفصل بعضه من بعض، والله ـ سبحانه ـ هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه، فهو أحد لا يمثاله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه، كما قال في آخر السورة‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏، استعملها هنا في النفي، أي‏:‏ ليس شيء من الأشياء كفوا له في شيء من الأشياء؛ لأنه أحد‏.‏

وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنت سيدنا فقال‏:‏ ‏[‏السيد/ الله‏]‏ ودل قوله‏:‏ ‏[‏الأحد، الصمد‏]‏ على أنه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد؛ فإن الصمد‏:‏ هو الذي لا جوف له ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء، فلا يأكل ولا يشرب ـ سبحانه وتعالى ـ كما قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏، وفي قراءة الأعمش وغيره‏:‏ ‏[‏ولا يَطْعَمْ‏]‏ بالفتح‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمتينُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏:‏ 58‏]‏، ومن مخلوقاته الملائكة، وهم صمد لا يأكلون ولا يشربون، فالخالق لهم ـ جل جلاله ـ أحق بكل غني وكمال جعله لبعض مخلوقاته؛ فلهذا فسر بعض السلف الصمد‏:‏ بأنه الذي لا يأكل ولا يشرب، والصمد‏:‏ المصمد الذي لا جوف له، فلا يخرج منه عين من الأعيان، فلا يلد‏.‏

ولذلك قال من قال من السلف‏:‏ هو الذي لا يخرج منه شيء، ليس مرادهم أنه لا يتكلم، وإن كان يقال في الكلام‏:‏ إنه خرج منه، كما قال في الحديث‏:‏ ‏(‏ما تقرب العباد إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه‏)‏ يعني‏:‏ القرآن، وقال أبو بكر الصديق ـ لما سمع قرآن مسيلمة‏:‏ إن هذا لم يخرج من إلٍّ‏.‏ فخروج الكلام من المتكلم هو بمعني أنه يتكلم به فيسمع منه، ويبلغ إلى غيره ليس بمخلوق في غيره، كما يقول الجهمية‏:‏ ليس بمعني أن شيئا من الأشياء القائمة به يفارقه، وينتقل عنه إلى غيره، /فإن هذا ممتنع في صفات المخلوقين، أن تفارق الصفة محلها، وتنتقل إلى غير محلها، فكيف بصفات الخالق جل جلاله‏.‏ وقد قال تعالى في كلام المخلوقين‏:‏ ‏{‏كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏، وتلك الكلمة هي قائمة بالمتكلم، وسمعت منه ليس خروجها من فيه، أن ما قام بذاته من الكلام فارق ذاته، وانتقل إلى غيره، فخروج كل شيء بحسبه، ومن شأن العلم والكلام إذا استفيد من العالم والمتكلم ألا ينقص من محله؛ ولهذا شبه بالنور الذي يقتبس منه كل أحد الضوء، وهو باق على حاله لم ينقص، فقول من قال من السلف‏:‏ الصمد‏:‏ هو الذي لم يخرج منه شيء، كلام صحيح، بمعني أنه لا يفارقه شيء منه‏.‏

ولهذا امتنع عليه أن يلد وأن يولد؛ وذلك أن الولادة والتولد ـ وكل ما يكون من هذه الألفاظ ـ لا يكون إلا من أصلين، وما كان من المتولد عينًا قائمة بنفسها، فلابد لها من مادة تخرج منها، وما كان عرضًا قائمًا بغيره، فلابد له من محل يقوم به‏.‏

فالأول‏:‏ نفاه بقوله‏:‏ ‏{‏أحد‏}‏، فإن الأحد‏:‏ هو الذي لا كفؤ له ولا نظير، فيمتنع أن تكون له صاحبة، والتولد إنما يكون بين شيء ين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏، فنفي ـ سبحانه ـ الولد بامتناع لازمه عليه، فإن انتفاء اللازم يدل/على انتفاء الملزوم، وبأنه خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، ليس فيه شيء مولود له‏.‏

والثاني‏:‏ نفاه بكونه ـ سبحانه ـ الصمد، وهذا المتولد من أصلين يكون بجزئين ينفصلان من الأصلين، كتولد الحيوان من أبيه وأمه بالمنى الذي ينفصل من أبيه وأمه، فهذا التولد يفتقر إلى أصل آخر، وإلى أن يخرج منهما شيء، وكل ذلك ممتنع في حق الله ـ تعالى ـ فإنه أحد، فليس له كفؤ يكون صاحبة ونظيرًا، وهو صمد لا يخرج منه شيء، فكل واحد من كونه أحدًا، ومن كونه صمدًا يمنع أن يكون والدًا، ويمنع أن يكون مولودًا بطريق الأولى والأحرى‏.‏

وكما أن التوالد في الحيوان لا يكون إلا من أصلين ـ سواء كان الأصلان من جنس الولد، وهو الحيوان المتوالد، أو من غير جنسه، وهو المتولد ـ فكذلك في غير الحيوان كالنار المتولدة من الزندين، سواء كانا خشبتين، أو كانا حجرًا وحديدًا، أو غير ذلك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 71‏:‏ 73‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78‏:‏ 80‏]‏، /قال غير واحد من المفسرين‏:‏ هما شجرتان يقال لأحدهما‏:‏ المرخ، والأخرى‏:‏ العفار‏.‏ فمن أراد منهما النار؛ قطع منهما غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ ـ وهو ذكر ـ على العفار ـ وهو أنثي ـ فتخرج منهما النار بإذن الله ـ تعالي‏.‏ وتقول العرب‏:‏ في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ في كل شجرة نار إلا العناب، ‏{‏فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 80‏]‏، فذلك زنادهم‏.‏

وقد قال أهل اللغة ـ الجوهري وغيره‏:‏ الزند‏:‏ العود الذي يقدح به النار، وهو الأعلي‏.‏ والزندة السفلي فيها ثقب، وهي الأنثي، فإذا اجتمعا قيل‏:‏ زندان‏.‏

وقال أهل الخبرة بهذا‏:‏ إنهم يسحقون الثقب الذي في الأنثى بالأعلى كما يفعل ذكر الحيوان في أنثاه، فبذلك السحق والحك يخرج منهما أجزاء ناعمة تنقدح منها النار، فتتولد النار من مادة الذكر والأنثي كما يتولد الولد من مادة الرجل والمرأة، وسحق الأنثي بالذكر وقدحها به يقتضي حرارة كل منهما، ويتحلل من كل منهما مادة تنقدح منها النار، كما أن إيلاج ذكر الحيوان في أنثاه بقدح وحك فرجها بفرجه، فتقوي حرارة كل منهما، ويتحلل من كل منهما مادة تمتزج بالأخرى، ويتولد منهما الولد، ويقال‏:‏ علقت النار في المحل الذي يقدح عليه، الذي هو/ كالرحم للولد، وهو الحِرَاق والصُّوفان، ونحو ذلك مما يكون أسرع قبولًا للنار من غيره، كما علقت المرأة من الرجل، وقد لا تعلق النار كما قد لا تعلق المرأة، وقد لا تنقدح نار كما لا ينزل مني، والنار ليست من جنس الزنادين، بل تولد النار منهما كتولد حيوان من الماء والطين، فإن الحيوان نوعان‏:‏ مُتَوَالَد كالإنسان وبهيمة الأنعام، وغير ذلك مما يخلق من أبوين‏.‏ ومُتَوَلِّد كالذي يتولد من الفاكهة والخل، وكالقمل الذي يتولد من وسخ جلد الإنسان، وكالفأر والبراغيث، وغير ذلك مما يخلق من الماء والتراب‏.‏

وقد تنازع الناس فيما يخلقه الله من الحيوان والنبات والمعدن والمطر والنار التي توري بالزناد وغير ذلك‏:‏ هل تحدث أعيان هذه الأجسام فيقلب هذا الجنس إلى جنس آخر، كما يقلب المنى علقة ثم مضغة، أو لا تحدث إلا أعراض، وأما الأعيان التي هي الجواهر، فهي باقية بغير صفاتها بما يحدثه فيها من الأكوان الأربعة‏:‏ الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون‏؟‏ على قولين‏:‏

فالقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل التجزي كما يقوله كثير من أهل الكلام، وإما من جواهر لا نهاية لها كما يحكى عن النظّام‏.‏

/فالقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر يقولون‏:‏ إن الله لا يحدث شيئا قائمًا بنفسه، وإنما يحدث الأعراض التي هي الاجتماع والافتراق، والحركة والسكون، وغير ذلك من الأعراض‏.‏ ثم من قال منهم بأن الجواهر محدثة قال‏:‏ إن الله أحدثها ابتداء، ثم جميع ما يحدثه إنما هو إحداث أعراض فيها لا يحدث الله بعد ذلك جواهر، وهذا قول أكثر المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم، ومن أكابر هؤلاء من يظن أن هذا مذهب المسلمين، ويذكر إجماع المسلمين عليه، وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة، ولا جمهور الأمة؛ بل جمهور الأمة ـ حتى من طوائف أهل الكلام ـ ينكرون الجوهر الفرد، وتركب الأجسام من الجواهر، وابن كُلاَّب ـ إمام أتباعه ـ هو ممن ينكر الجوهر الفرد، وقد ذكر ذلك أبو بكر ابن فورك في مصنفه الذي صنفه في مقالات ابن كُلاَّب، وما بينه وبين الأشعري من الخلاف، وهكذا نفي الجوهر الفرد قول الهشامية والضرارية، وكثير من الكرامية والنجارية أيضًا‏.‏

وهؤلاء القائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، المشهور عنهم بأن الجواهر متماثلة؛ بل ويقولون ـ أو أكثرهم‏:‏ إن الأجسام متماثلة؛ لأنها مركبة من الجواهر المتماثلة وإنما اختلفت باختلاف الأعراض، وتلك صفات عارضة لها ليست لازمة، فلا تنفي التماثل، فإن حد المثلين أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه‏.‏ ما يمتنع عليه وهم يقولون‏:‏ إن الجواهر متماثلة، فيجوز/ على كل واحد ما جاز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه‏.‏

وكذلك الأجسام المؤلفة من الجواهر؛ ولهذا إذا أثبتوا حكمًا لجسم قالوا‏:‏ هذا ثابت لجميع الأجسام، بناء على التماثل، وأكثر العقلاء ينكرون هذا، وحذاقهم قد أبطلوا الحجج التي احتجوا بها على التماثل، كما ذكر ذلك الرازي والآمدي وغيرهما‏.‏ وقد بسط الكلام على هذا في مواضع‏.‏ والأشعري في كتاب ‏[‏الإبانة‏]‏ جعل القول بتماثل الأجسام من أقوال المعتزلة التي أنكرها‏.‏

وهؤلاء يقولون‏:‏ إن الله يخص أحد الجسمين المتماثلين بأعراض دون الآخر بمجرد المشيء ة، على أصل الجهمية، أو لمعني آخر كما تقوله القدرية‏.‏ ويقولون‏:‏ يمتنع انقلاب الأجناس، فلا ينقلب الجسم عرضًا، ولا جنس من الأعراض إلى جنس آخر، فلو قالوا‏:‏ إن الأجسام مخلوقة، وإن المخلوق ينقلب من جنس إلى جنس آخر، لزم انقلاب الأجناس‏.‏ فهؤلاء يقولون‏:‏ إن التولد الحاصل في الرحم، والثمر الحاصل في الشجر، والنار الحاصلة من الزناد هي جواهر كانت في المادة التي خلق ذلك منها، وهي باقية، لكن غيرت صفتها بالاجتماع والافتراق والحركة والسكون‏.‏

/ولهذا لما ذكر أبو عبد الله الرازي أدلة ‏[‏إثبات الصانع‏]‏ ذكر أربعة طرق‏:‏ إمكان الذوات وحدوثها، وإمكان الصفات وحدوثها، والطرق الثلاثة الأول ضعيفة، بل باطلة؛ فإن الذوات التي ادعوا حدوثها أو إمكانها أو إمكان صفاتها ذكروها بألفاظ مجملة لا يتميز فيها الخالق عن المخلوق، ولم يقيموا على ما ادعوه دليلًا صحيحًا‏.‏

وأما الطريق الرابع ـ وهو الحدوث لما يعلم حدوثه ـ فهو طريق صحيح، وهو طريق القرآن، لكن قصروا فيه غاية التقصير؛ فإنهم على أصلهم لم يشهدوا حدوث شيء من الذوات، بل حدوث الصفات، وطريقة القرآن تبين أن كل ما سوى الله مخلوق، وأنه آية لله، وقد بسط الكلام على ما في القرآن من البراهين والآيات التي لم يصل إليها هؤلاء المتكلمة والمتفلسفة، وإن كل ما عندهم من حق فهو جزء مما دل عليه القرآن في غير موضع‏.‏

والمقصود هنا أن هؤلاء لما كان هذا أصلهم في ابتداء الخلق - وهو القول بإثبات الجوهر الفرد ـ كان أصلهم في المعاد مبنيًا عليه فصاروا على قولين‏:‏

منهم من يقول‏:‏ تعدم الجواهر ثم تعاد‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ تتفرق الأجزاء ثم تجتمع، فأورد عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك/ الحيوان أكله إنسان آخر، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا لم تعد من هذا‏.‏ وأورد عليهم أن الإنسان يتحلل دائمًا فما الذي يعاد أهو الذي كان وقت الموت‏؟‏ فإن قيل بذلك، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض‏.‏ فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني، والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل، ليس فيه شيء باق، فسار ما ذكروه في المعاد مما قوي شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان، وأوجب أن صار طائفة من النظار إلى أن الله يخلق بدنًا آخر تعود الروح إليه‏.‏

والمقصود تنعيم الروح وتعذيبها سواء كان هذا في البدن أو في غيره، وهذا ـ أيضًا ـ مخالف للنصوص الصريحة بإعادة هذا البدن‏.‏ وهذا المذكور في كتب الرازي، فليس في كتبه وكتب أمثاله في مسائل أصول الدين الكبار القول الصحيح الذي يوافق المنقول والمعقول، الذي بعث الله به الرسول، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها، بل يذكر بحوث المتفلسفة الملاحدة، وبحوث المتكلمين المبتدعة الذين بنوا على أصول الجهمية والقدرية في مسائل الخلق، والبعث والمبدأ، والمعاد، وكلا الطريقين فاسد؛ إذ بنوه على مقدمات فاسدة، والقول الذي عليه /السلف وجمهور العقلاء من أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، إنما يذكره عن الفلاسفة والأطباء‏.‏ وهذا القول ـ وهو القول في خلق الله للأجسام التي يشاهد حدوثها أنه يقلبها ويحيلها من جسم إلى جسم ـ هو الذي عليه السلف والفقهاء ـ قاطبة ـ والجمهور‏.‏

ولهذا يقول الفقهاء في النجاسة‏:‏ هل تطهر بالاستحالة أم لا‏؟‏ كما تستحيل العذرة رمـادًا، والخنزير وغـيره ملحًا، ونحو ذلك، والمنى الذي في الرحم يقلبه الله علقـة ثم مضغـة، وكذلك الثمـر يخلق بقلب المادة التي يخرجها من الشجرة من الرطوبة مع الهـواء والماء الذي نزل عليها، وغير ذلك من المواد التي يقلبها ثمــرة بمشيئته وقدرته، وكذلك الحبـة يفلقها وتنقلب المواد التي يخلقها منها سنبلـة وشجـرة وغير ذلك، وهكـذا خلقـه لما يخلقـه ـ سبحانـه وتعالى ـ كما خلق آدم من الطين، فقلب حقيقة الطين، فجعلها عظمًا ولحمًا وغير ذلك من أجزاء البدن، وكذلك المضغة يقلبها عظامًا، وغير عظام‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وكـذلك النار يخلقها بقلب بعض أجزاء الزناد نارًا، كما قال تعالى‏:‏ /‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 80‏]‏‏.‏ فنفس تلك الأجـزاء التي خرجت من الشجر الأخضـر جعلها الله نـارًا مـن غـير أن يكون كان في الشجر الأخضر نار أصلًا، كما لم يكـن في الشجـرة ثمـرة أصلًا، ولا كان في بطـن المرأة جنـين أصـلًا؛ بل خلق هـذا الموجود مـن مـادة غيره بقلبـه تلك المادة إلى هذا، وبما ضمه إلى هذا من مواد أخر، وكـذلك الإعادة يعيده بعد أن يبلي كله إلا عجب الذنب، كما ثبت في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كل ابن آدم يبلى إلا عَجْبَ الذَّنَبِ‏.‏ منـه خلق ابن آدم، ومنـه يركب‏)‏‏.‏

وهو إذا أعـاد الإنسان في النشأة الثانيـة لم تكـن تلك النشأة مماثلـة لهـذه، فإن هـذه كائنـة فاسدة، وتلك كائنـة لا فاسـدة، بـل باقيـة دائمـة، وليس لأهـل الجنة فضلات فاسدة تخرج منهم، كما ثبت في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يتمخطون وإنما هو رشح كرشح المسك‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين، عـن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنـه قـال‏:‏ ‏(‏يحشـر الناس حُفاةً عُراةً غُرْلًا‏)‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ فهم يعودون غلفًا لا مختونين‏.‏

وقال الحسن البصري ومجاهد‏:‏ كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بدأهم من/ التراب، وإلى التراب يعودون، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وهو قد شبه ـ سبحانه ـ إعادة الناس في النشأة الأخرى بإحياء الأرض بعد موتها في غير موضع كقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 7‏:‏ 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ييَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شيئا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5، 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

/وهـو ـ سبحانه ـ مـع إخباره أنه يعيد الخلق، وأنه يحيي العظام وهي رميم، وأنه يخـرج الناس مـن الأرض تـارة أخرى، هـو يخبر أن المعاد هو المبدأ، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏، ويخبر أن الثاني مثل الأول، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لاَّ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 98‏:‏ 99‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏:‏ 52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أو ليسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 58‏:‏ 62‏]‏‏.‏

والمراد بـقدرته على خلق مثلهم هو قدرته على إعادتهم، كما أخبر/ بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏، فـإن القوم ما كانوا ينازعون في أن الله يخلق في هذه الدار ناسًا أمثالهم، فـإن هـذا هـو الواقع المشاهد يخلق قرنًا بعد قرن، يخلق الولد من الوالدين، وهـذه هي النشأة الأولى، وقـد علمـوها، وبها احتج عليهم على قدرته على النشأة الآخرة، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 62‏]‏، وقـال‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78، 79‏]‏، وقـال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ولهـذا قـال‏:‏ ‏{‏عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ قال الحسـن بن الفضل البجلي‏:‏ الـذي عنـدي في هـذه الآيـة‏:‏ ‏{‏ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى‏}‏ أي‏:‏ أخلقكم للبعث بعد الموت من حيث لا تعلمـون، كيف شـئت، وذلك أنكم علمتـم النشأة الأولى، كيف كـانت في بطـون الأمهات، وليست الأخرى كذلك‏.‏ ومعلـوم أن النشأة الأولى كان الإنسان نطفة، ثم علقـة، ثم مضغـة مخلقـة، ثم ينفـخ فيـه الروح، وتلك النطفة من منى الرجل والمرأة، وهـو يغـذيه بـدم الطمث الذي يربي الله به الجنين في ظلمات ثلاث‏:‏ ظلمة المشيمة، وظلمـة/الرحـم، وظلمــة البطــن‏.‏ والنشأة الثانيــة لا يكـونـون في بطـن امـرأة، ولا يغـذون بـدم، ولا يكون أحــدهم نطفـة رجـل وامـرأة، ثم يصـير علقـة بـل ينشـؤون نشأة أخرى، وتكون المادة من التراب، كما قال‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن الأرض تمطر مطرًا كمنى الرجال ينبتون في القبور كما ينبت النبات‏)‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ الْخُرُوجُ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 11‏]‏، ‏{‏كَذَلِكَ النُّشُورُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏، ‏{‏كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏‏.‏

فعلم أن النشأتين نوعان تحت جنس، يتفقان ويتماثلان ويتشابهان من وجه، ويفترقان ويتنـوعـان من وجـه آخر؛ ولهذا جعل المعاد هو المبدأ، وجعل مثله ـ أيضًا ـ فباعتبار اتفاق المبـدأ والمعاد فـهو هـو، وباعتبار مـا بين النشأتين مـن الفـرق فهو مثله، وهكذا كل مـا أعيـد‏.‏ فلـفـظ الإعـادة يقتضـي المبدأ والمعاد، سـواء في ذلك إعـادة الأجسام والأعـراض كـإعادة الصلاة وغـيرها، فـإن النبي صلى الله عليه وسلم مـر برجل يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة‏.‏ ويقال للرجل‏:‏ أعد كلامك، وفلان قد أعاد كلام فلان بعينه، ويعيد الدرس‏.‏ فالكلام هو الكلام وإن كان صـوت الثاني غير صوت الأول وحركته، ولا/يطلق القول عليه أنه مثله، بل قد قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا‏.‏

وإن كان يسمي مثلًا مقيدًا حتى يقال لمن حكي كلام غيره‏:‏ هكذا قال فلان، أي‏:‏ مثل هذا قال، ويقال‏:‏ فعل هذا عودًا على بدء، إذا فعله مرة ثانية بعد أولى‏.‏ ومنه البئر البدي، والبئر العادي، فالبدي التي ابتدئت، والعادي التي أعيدت، وليست بنسبة إلى عاد، كما قيل‏.‏ ويقال‏:‏ استعدته الشيء فأعاده، إذا سألته أن يفعله مرة ثانية، ومنه سميت العادة‏.‏ يقال‏:‏ عاده واعتاده وتعوده، أي‏:‏ صار عادة له‏.‏ وعَوَّدَ كلبه الصيد فتعوده، وهو من المعاوَدَة، والمعاودة‏:‏ الرجوع إلى الأمر الأول‏.‏ ويقال‏:‏ الشجاع معاود؛ لأنه لا يمل المراس‏.‏ وعاودته الحمي وعاوده بالمسألة، أي‏:‏ سأله مرة بعد مرة‏.‏ وتعاود القوم في الحرب وغيرها، إذا عاد كل فريق إلى صاحبه، والعُوَادُ ـ بالضم ـ‏:‏ ما أعيد من الطعام بعد ما أكل منه مرة أخرى، وعَوادِ بمعني عُدْ مثل نِزَالِ بمعني انْزِل‏.‏

ففي جميـع هـذه المواضـع يستعمل لفظ الإعـادة باعتبار الحقيقة، فإن الحقيقة الموجودة في المرة الثانيـة هي الأولى، وإن تعـدد الشخص؛ ولهـذا يـقال‏:‏ هـو مثلـه، ويقال‏:‏ هذا هو هـذا‏.‏ وكـلاهما صحيح‏.‏ وأعني بالحقيقة‏:‏ الأمر الذي يختص بذلك الشخص، ليس المراد القدر المشترك بين/ الفاعلين، فإن من فعل مثل فعل غيره لا يقال‏:‏ أعاده، وإنما يقال‏:‏ حاكـاه وشابهه، بخـلاف مـا إذا أعـاد فعـلًا ثانيًا مثل مـا فعـل أولًا، فإنه يقال‏:‏ أعاد فعله‏.‏ وكـذلك يقال لمن أعاد كلام غيره‏:‏ قد أعاده‏.‏ ولا يقال لمن أنشأ مثله‏:‏ قد أعاده‏.‏ ويقال‏:‏ قرئ على هذا، وأعاد على هذا، وهذا يقرأ، أي‏:‏ يدرس، وهذا يعيد‏.‏ ولو كان كـلامًا آخر مما يماثله، لم يقـل فيـه‏:‏ يعيد‏.‏ وكذلك من كسر خاتمًا أو غيره من المصوغ يقال‏:‏ أَعِدْهُ كما كان‏.‏ ويقال لمن هدم دارًا‏:‏ أَعِدْهَا كما كانت، بخلاف من أنشأ أخرى مثلها، فإن هذا لا يسمي معيدًا‏.‏ والمعاد يقال فيه‏:‏ هذا هو الأول بعينه، ويقال‏:‏ هذا مثل الأول من كل وجه، ونحو ذلك من العبارات الدالة على أنه هو هو من وجه، وهو مثله من وجه‏.‏

وبهذا تزول الشبهات الواردة على هذا الموضع، كقول من قال‏:‏ الإعادة لا تكون إلا مع إعادة ذلك الزمان، ونحو ذلك مما يمنع إعادته في صريح العقل، وإنما يعاد بالإتيان بمثله، وإن قال بعض المتكلمين‏:‏ إنه لا مغايرة أصلًا بوجه من الوجوه‏.‏

والإعادة التي أخبر الله بها هي الإعادة المعقولة في هذا الخطاب، وهي الإعادة التي فهمها المشركون والمسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي يدل عليها لفظ الإعادة، والمعاد هو الأول بعينه وإن كان بين لوازم الإعادة، ولوازم البدأة فرق، فذلك الفرق لا يمنع/ أن يكون قد أعيد الأول ليس الجسد الثاني مباينًا للأول من كل وجه ـ كما زعم بعضهم ـ ولا أن النشأة الثانية كالأولى من كل وجه ـ كما ظن بعضهم ـ وكما أنه ـ سبحانه ـ خلق الإنسان، ولم يكـن شيئا، كـذلك يعيـده بعـد أن لم يكـن شيئا‏.‏ وعلى هـذا فالإنسان الذي صار ترابًا ونبت من ذلك التراب نبات آخر أكله إنسان آخر، وهلم جـرا‏.‏ والإنسان الـذي أكلـه إنسان أو حيــوان، وأكـل ذلك الحيـوان إنسانًـا آخـر، ففي هذا كله قد عـدم هذا الإنسان وهذا الإنسان، وصار كل منهما ترابًا، كما كان قبل أن يخلق، ثم يعاد هـذا ويعاد هـذا مـن التراب، وإنمـا يبقي عَجْبُ الذَّنَبِ، منـه خلق، ومنـه يركب‏.‏

وأما سائره فعدم، فيعاد من المادة التي استحال إليها، فإذا استحال في القبر الواحد ألف ميت، وصاروا كلهم ترابًا؛ فإنهم يعادون ويقومون من ذلك القبر، وينشئهم الله ـ تعالى ـ بعد أن كانوا عدمًا محضًا، كما أنشأهم أولًا بعد أن كانوا عدمًا محضًا، وإذا صار ألف إنسان ترابًا في قبر، أنشأ هؤلاء من ذلك القبر من غير أن يحتاج أن يخلقهم كما خلقهم في النشأة الأولى التي خلقهم منها من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، وجعل نشأتهم بما يستحيل إلى أبدانهم من الطعام والشراب، كما يستحيل إلى بدن أحدهم ما يأكله من نبات وحيوان‏.‏ وكذلك لو أكل إنسانًا، أو أكل حيوانًا قد أكل إنسانًا، فالنشأة/الثانية لا يخلقهم فيها بمثل هذه الاستحالة، بل يعيد الأجساد من غير أن ينقلهم من نطقة إلى علقة إلى مضغة، ومن غير أن يغذوها بدم الطمث ومن غير أن يغذوها بلبن الأم وبسائر ما يأكله من الطعام والشراب، فمن ظن أن الإعادة تحتاج إلى إعادة الأغذية التي استحالت إلى أبدانهم فقد غلط‏.‏

وحينئـذ، فإذا أكـل إنسان إنسانًا، فإنمـا صار غـذاء له كسائـر الأغذية وهو لا يحتاج إلى إعادة الأغذية، ومعلوم أن الغذاء ينزل إلى المعدة طعامًا وشرابًا، ثم يصير كلوسًا كالثردة ثم كيمـوسًا كالحريرة، ثم ينطبخ دمًا فيقسمه الله ـ تعالى ـ في البدن كله، ويأخـذ كل جزء من البدن نصيبه، فيستحيل الدم إلى شبيه ذلك الجـزء العظم عظمًا، واللحم لحمًا، والعـرق عرقًا، وهــذا في الرزق كـاستحالتهم في مـبـدأ الخلق نطفة، ثم علقة، ثم مضغة‏.‏ وكما أنه ـ سبحانه ـ لا يحتاج في الإعادة إلى أن يحيل أحدهم نطفة، ثم علقـة، ثم مضغة، فكذلك أغذيتهم لا يحتاج أن يجعلها خبزًا وفاكهة ولحمًا، ثم يجعلها كلوسًا وكيموسًا، ثم دمًا، ثم عظمًا ولحمًا وعروقًا، بل يعيد هذا البدن على صفة أخرى، لنشأة ثانية ليست مثل هذه النشأة، كما قال‏:‏ ‏{‏وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 61‏]‏، ولا يحتاج مع ذلك إلى شيء من هذه الاستحالات التي كانت في النشأة الأولى‏.‏

/وبهـذا يظهر الجواب عن قوله‏:‏ البدن دائمًا في التحلل، فإن تحلل البدن ليس بأعجب مـن انقـلاب النطفـة علقـة، والعلقـة مضغـة، وحقيقـة كل منهما خـلاف حقيقـة الأخرى‏.‏

وأما البدن المتحلل، فالأجزاء الثانية تشابه الأولى وتماثلها، وإذا كان في الإعادة لا يحتاج إلى انقلابه من حقيقة إلى حقيقة فكيف بانقلابه بسبب التحلل‏؟‏ ‏!‏ ومعلوم أن من رأى شخصًا وهو شاب، ثم رآه وهو شيخ، علم أن هذا هو ذاك مع هذه الاستحالة، وكذلك سائر الحيوان والنبات، كمن غاب عن شجرة مدة، ثم جاء فوجدها، علم أن هذه هي الأولى مع أن التحلل والاستحالة ثابت في سائر الحيوان والنبات، كما هو في بدن الإنسان، ولا يحتاج عاقل في اعتقاده أن هذه الشجرة هي الأولى، وأن هذه الفرس هي التي كانت عنده من سنين، ولا أن هذا الإنسان هو الذي رآه من عشرين سنة إلى أن يقدر بقاء أجزاء أصلية لم تتحلل، ولا يخطر هذا ببال أحد‏.‏ ولا يقتصر العقلاء في قولهم هذا‏:‏ هو ذاك على تلك الأجزاء التي لا تعرف ولا تتميز عن غيرها، بل إنما يشيرون إلى جملة الشجرة والفرس والإنسان، مع أنه قد يكون كان صغيرًا فكبر‏.‏ ولا يقال‏:‏ إنما كان هو ذاك باعتبار أن النفس الناطقة واحدة ـ كما زعمه من ادعي أن البدن الثاني ليس هو ذاك الأول ـ ولكن المقصود جزاء النفس بنعيم أو عذاب، /ففي أي بدن كانت حصل المقصود، فإن هذا ـ أيضًا ـ باطل مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، مخالف للمعقول من الإعادة‏.‏

فإنا قد ذكرنا أن العقلاء كلهم يقولون‏:‏ هذا الفرس هو ذاك، وهذه الشجرة هي تلك التي كانت من سنين، مع علم العقلاء أن النبات ليس له نفس ناطقة تفارقه وتقوم بذاتها‏.‏وكذلك يقولون مثل هذا في الحيوان، وفي الإنسان، مع أنه لم يخطر بقلوبهم أن المشار إليه بهذا وذاك نفس مفارقة، بل قد لا يخطر هذا بقلوبهم، فدل على أن العقلاء كانوا يعلمون أن هذا البدن هو ذاك، مع وجود الاستحالة، وعلم بذلك أن ما ذكر من الاستحالة لا ينافي أن يكون البدن الذي يعاد في النشأة الثانية هو هذا البدن؛ ولهذا يشهد البدن المعاد بما عمل في الدنيا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 65‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏

ومعلـوم أن الإنسان لو قال قولا، أو فعل فعلًا، أو رأي غيره يفعل، أو سمعه يقول، ثم بعد ثلاثين سنة شهد على نفسه بما قال أو فعل، وهو الإقرار الذي يؤاخذ بموجبه، أو شهد على غيره بما قبضه/ من الأموال، وأقر به من الحقوق ـ لكانت الشهادة على عين ذلك المشهود عليه مقبولة، مع استحالة بدنه في هذه المدة الطويلة، ولا يقول عاقل من العقلاء‏:‏ إن هذه الشهادة على مثله أو على غيره‏.‏ولو قدر أن المعين حيوان أو نبات، وشهد أن هذا الحيوان قبضه هذا من هذا، وأن هذا الشجر سلمه هذا إلى هذا، كان كلامًا معقولًا مع الاستحالة‏.‏وإذا كانت الاستحالة غير مؤثرة، فقول القائل‏:‏ يعيده على صفة ما كان وقت موته أو سمنه أو هزاله أو غير ذلك جهل منه؛ فإن صفة تلك النشأة الثانية ليست مماثلة لصفة هذه النشأة، حتى يقال‏:‏ إن الصفات هي المغيرة؛ إذ ليس هناك استحالة، ولا استفراغ، ولا امتلاء، ولا سمن، ولا هزال، ولا سيما أهل الجنة إذا دخلوها فإنهم يدخلونها على صورة أبيهم آدم، طول أحدهم ستون ذراعًا، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما‏.‏ وروي أن عرضه سبعة أذرع‏.‏ وهم لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يبصقون، ولا يتمخطون‏.‏

وليست تلك النشأة من أخلاط متضادة حتى يستلزم مفارقة بعضها بعضًا، كما في هذه النشأة، ولا طعامهم مستحيلًا، ولا شرابهم مستحيلًا من التراب والماء والهواء، كما هي أطعماتهم في هذه النشأة؛ ولهذا أبقى اللّه طعام الذي مر على قرية وشرابه مائة عام لم يتغير، ودلنا ـ سبحانه ـ بهذا على قدرته، فإذا كان في دار الكون والفساد يبقي الطعام الذي /هو رطب وعنب أو نحو ذلك، والشراب الذي هو ماء أو ما فــيه ماء مائــة عام لم يتغير، فقدرته ـ سبحانه وتعالى ـ على أن يجعل الطعام والشراب في النشأة الأخرى لا يتغير بطريق الأولى والأحرى، وهذه الأمور لبسطها موضع آخر‏.‏